دراسات إسلامية 

تَحوُّلات في المجتمع المعاصر

 

 

بقلم : الأستاذ محمد ساجد القاسمي / أستاذ بالجامعة

 

 

تحوّلات في الإنسان المعاصر :

       إذا قارنّا بين الماضي والحاضر وبين الجيل الذي انقرض وبين الجيل المعاصر، وجدنا بينهما فرقًا شاسعًا وبونًا بعيدًا، وجدنا أنَّ تحوّلات جذرية وعميقة طرأت على المجتمع المعاصر والإنسان الذي يعيش فيه، وهي تحوّلات شملت المجتمع بجميع نواحيه.

تحوّلات في نظرته إلى الحياة :

       ومن أهم هذه التحوّلات وأبعدها أثرًا على الإنسان المعاصر أنّه تغيّرت نظرته إلى الحياة؛ فقد أصبحَ ينظر إلى الحياة نظرةً ماديةً بحتة ، ولا يبالي بالقيم الدينية والأخلاقية، ولا يُهِمُّه أمر الدين والآخرة. وأكبر همِّه أن يعيش هذه الحياة الدنيا عيشًا رغيدًا .

تحوّلات في أعماله ونشاطاته :

       انطلاقًا من نظرته إلى الحياة أصبحت نشاطاته وأعماله كلها تدور حول المادّة، فإذا درسنا حياتَه وجدنا أنه يقضي نحو ثلث عمره في أخذ العلم والثقافة لينال حظاً وافرًا من المادة والمال . فعندما يتثقَّفَ ويصبح مؤهلاً يشغلَ منصبًا كموظف، ويبقي فيه أكثر من ثلث حياته، ثم يُحال للمعاش، ويقضي ما تبقى من أيام حياته فيما قضى معظمها.

       إن الإنسان المعاصر الذي تخرَّج في النظام التعليمي المُتَّبَع في المجتمع سواء كان سياسيًا أو اجتماعيًا أو موظفًا أو تاجرًا لايتجاوز هَمُّه جمعَ المادة والمال .

تحوّلات في علاقاته بأسرته :

       إنّ الإنسان يربطه بأفراد أسرته وأقاربه وشائج رحم وروابط قرابة ، وهي علاقات طبيعية تفوق كلَّ علاقة ، إلا أنها أصبحت اليوم تنصبغ بالصبغة المادية ، فلذا نرى أنّ هذه العلاقات صارت تتراخى بين أفراد الأسرة وتضعف ؛ فالولد يثور على أبيه وربما يقضي عليه ، والأب يجني على ولده ، والأخ يقتل أخاه . وكل ذلك بعوامل مادية .

       وكذلك نرىٰ أنه قلَّت فيه الغيرة على عرضه وحرمته ؛ فهو يريد أن تكون ابنته أو أخته أو زوجته موظفة أو كاتبة في شركة أو مكتب حصولاً على مبلغ من المال ، مهما ضحّى ذلك بعرضه في سبيل الوظيفة . وأما العفاف والغيرة فليس لهما معنى في قاموسه .

       وقد بلغ الأمر في توظيف الفتيات وقلة الغيرة لدى أوليائهن أنّ هناك شركات، مثلاً شركات الطيران، لا توظف إلا الفتيات ذوات الجمال والصغيرات السن . كأنه لاقيمة لهنّ لدى الشركة إلا لجمالهن وسنِّهنَّ .

تحولات في لباسه :

       ومن أهم التحولات في المجتمع أننا نرى أن الرجل أخذ يلبس ملابس النساء ويتشبّه بهن ، فهو يحلق اللحية ويطيل شعر رأسه ويمسكه بحلقة من المطاط ، ويلبس في أذنيه قرطاً كالنساء. وكذلك المرأة تتزيّأ بزيِّ الرجل فتلبس الشارت والبنطلون، وتقصر شعرها، وتحاول أن تصير كالرجل، وربما يختلط الحابل بالنابل على الرائي ويصعبَ عليه الفرق بين الرجل والمرأة .

تحولات في الآداب الاجتماعية :

       إنَّ الآداب الاجتماعية في المجتمع تتحول سريعًا؛ فتذهب التقاليد الساذجة البسيطة ، وتحل محلها التقاليد الغربية الوافدة ؛ فأفراد المجتمع يعنون بالتقاليد والآداب التي لم يعهدوها من قبل . كالاحتفال بالميلاد، وتدشين المحل أو البرنامج والحفلات بقطع الشريط ، والإسراف والتبذير في حفلات الزواج والعناية فيها بفرق الموسيقى والإضاءة الزائدة . كما أنهم يتبعون التقاليد الوافدة في المأكل والمشرب والمسكن وأسلوب العيش وطريقة الحياة .

       كنا نأخذ بالتقاليد الغربية – عن وعي ولا وعي – وربما نحن مدفوعون إلى ذلك ؛ ذات مرة كنت أنا وزميلي في رحلة إلى «ميروت» ، فنزلنا على مطعم بجانب الشارع ، فأفطرنا وشربنا الشأي، وقد عادت أيدينا تَتَلَوَّث بالدسم ، ففتشنا عن الماء لغسلها ، فقدّمت إلينا الأوراق لنمسحها بها ففعلنا، فقلنا لزميلي : «إننا نتسقّط الحياة الغربية ونعيشها شئنا أم أبينا» .

الفتن المعاصرة المتصاعدة في المجتمع :

       قد اجتاح المجتمع موجة عارمة من الفتن ، فما كان منها ضئيلاً في الماضي أصبحَ اليوم شديدًا، ولذلك أمثلة كثيرة نشاهدها فيما حولنا :

       منها أنَّ الناس كانوا في الماضي يشاهدون الرقص أوالمسرحية في مناسبة من مناسبات الأفراح أحيانًا ، أو بعض الشبان يقصدون دُوْر الخيّالة في المدن لمتابعة الأفلام السينمائية . أما الآن فقد تَغَيَّر الوضع وغزا التلفاز كل بيت في المدن ، وأما القرىٰ فقد غزا معظم بيوتها ، وأصبح كل بيت دار خيالة أو مسرحًا ، وسدَّ الفراغ الباقي الشريط المصور المسجّل (V. C. R) فالذين لايملكون التلفاز ولا يستطيعون أن يقتنوه وهم قليلون جدًا ، يكترون الشريط لليلة واحدة أو لفترة معيّنة ، فيتابعون من الأفلام ما تملي عليهم أهواؤهم .

       وقد رأيت بأم عيني أناسًا في بعض القرىٰ والمدن يعيشون عيشًا ضنكاً ،ويكسبون لقمة العيش كادحين طول النهار، فلما أمسى المساء اكتروا الشريط وجلسوا أمامه خاشعين .

       وكذلك انتشار الجوّالات وشبكات المعلومات العالمية قد جعل الملاهي والبرامج الفاسدة المدمرة للأخلاق في متناول أيدي المستهلكين .

       ومنها إقبال الناس – مراهقين وشبانًا وشيوخًا – على شرب الخمر وتعاطي المخدرات ، فقد كان في الماضي قلَّة قليلة من الناس يشربون الخمر، وكانوا يعتبرون هذا جريمةً ، والناس كذلك كانوا ينظرون إليهم شزرًا .

       وقد كان في الماضي حانات في المدن ، يقصدها شواذ من النّاس ، وأما الآن فقد تبدّل الوضع غير الوضع ، فقد أصبحت الحانات متوفرة في المدن والقرى وعلى مواقف السيارات ، وأصبحت الخمر بمتناول يد كل مدني وقروي ومقيم ومسافر .

       وقد هزّ كياني لما سمعت أن المراهقين والفتيان المتراوحين ما بين 15 و 16 سنة يتعاطون الخمر دونما استحياء .

       كما زادت الميول الإجرامية لدى المراهقين والشبان في المدن والقرىٰ جميعًا ، فهؤلاء يقومون بالسرقة والاغتصاب والزنا والقتل دونما خوف ولاوجلٍ .

       وقد كان الفتى والشباب فيما مضى من الأيام ساذجًا برئياً لايعرف من هذه الأعمال الإجرامية إلا ما يسمعه من أفواه النّاس ، بله القيام بها .

       ومنها الاهتمام الزائد بالألعاب الرياضية والملاهي ، فقد أولِعَ الناس لاسيما الصبيان والفتيان والشبان منهم بالألعاب الرياضية من الكركيت وكرة المضرب وكرة القدم وكرة السلَّة وغيرها ، وأولعوا أشدَّ الولعِ بأبطالها ونجومها ؛ فحفظوا أسماءهم وما قاموا به من الألعاب وما نالوا من الجوائز، ومتى انتصروا ، وأين انهزموا .

       وإذا قامت مباراة في الكركيت في بقعة من بقاع الأرض ترى المجتمع لاهيًا ساهيًا عن كل شيء، وترى أفراد المجتمع يتابعون المباراة ونتائجها عبر وسائل الإعلام نابذين كل شيء وراء ظهورهم كأنّ اللعب أكبرهمهم وأقصى غايتهم .

       لقد تركت هذه الألعاب الرياضية والملاهي آثارًا سلبية على أذهان الناس لاسيما الناشئة منهم ، فقد شغلت أحداث الألعاب ومبارياتها ونجومها وأبطالها أذهانهم ؛ فهم يتغنون بأسمائهم وأعمالهم آناء الليل وأطراف النهار ، فإذا سألتَ واحدًا منهم عن اسم نبيه وسيرته وأسماء أصحابه المشهورين ، وعن أركان الإسلام ومعتقداته اللازمة ، والأدعية المأثورة ، لايكاد يجيبك عنها بشكل صحيح .

بين الجيلين الماضي والمعاصر :

       وكذلك إذا قارنّا بين الجيل الذي قد انقرض وبين الجيل المعاصر وجدنا بينهما فرقًا كبيرًا ، وجدنا أنّ الأب كان رجلاً أمينًا ديّنًا يحافظ على الصلوات ويتلو القرآن ويلبس الزيّ الإسلامي ويتأدب بآداب الدين ، وقد خلفه ابن له ليس بأمين ولاديّن ، ولا يحافظ على الصلوات ولايلبس الزي الإسلامي ولا يعرف من آداب الدين شيئًا .

       وللقارئ أن يقول إنه ليس من اللازم أن يكون الابن شبيهًا بأبيه مشابهة الليلة بالبارحة ، وقد تُوجَد أمثلة التباين بين الأبن وأبيه في كل عصر، فليس هذا تحوّلاً يدعو إلى الاستغراب . أقول: إذا قارنا بين الماضي والحاضر وجدنا أمثلة التباين في المجتمع المعاصر أكثر مما في الماضي ، وجدنا مثالاً في كل أسرة وفي خلف كل سلف .

       أسوق هنا مثالاً شاهدته فيما حولي ، وهو أنّه توفي لي قريبٌ قبل سنوات ، كان قد تعلَّم القراءة والكتابة في كُتَّاب بلدته ، وجالس العلماء وتعلَّم منهم الدين ، فكان رجلاً ديّنًا أمينًا محافظاً على الصلوات ، وقائمًا بالليل ، ومستغفرًا بالأسحار ، وتلاءً للقرآن ، وقال لي ابنه : «إنه حافظ على أعماله الرتيبة هذه أكثر من عشرين سنةً» . وقد خَلَفه أبناء لايحافظون على الصلوات ، وأما الصفات الفاضلة الأخرى التي تحلى بها أبوهم فليس لهم منها نصيب . وأما أحفاده فهم أسوء حالاً من آبائهم .

أسباب التحوّلات :

       وإذا درسنا أسباب هذه التحولات الواسعة في المجتمع المعاصر رجعناها إلى الأسباب التالية :

       1- غياب الإيمان بالآخرة . هذا المجتمع الذي نعيش فيه لا يؤمن بالدين السماوي ولا بالآخرة ، ولا يُعِير أيَّ اهتمام القيمَ الدينيةَ والروحيّةَ ، وقد انبهر بزينة الحياة الدنيا وزخارفها ، وجرى وراءها لاهثاً تاركاً وراءها جميعَ المثل والقيم الدينية والروحية .

       2- المادية المفرطة . هذا المجتمع الذي نعيش فيه مجتمع مادِّي بحت ، تدور فيه رحى النشاط حول المادة والمال . وأفراده يتبنَّون قيمًا مادية ، فأقصى غاية حياتهم المادة والمال لاغير .

       3- وسائل الاعلام . قد جعلت وسائل الإعلام هذا المجتمع لاهيًا ماجنًا متهتكا ، ومن أهمها التلفاز وشبكة المعلومات العالمية والجوّالات ، وهي تحمل للمجتمع سيلاً عارمًا من الفواحش والمنكرات . وهناك أعداء ألدّاء للإنسانية يستخدمون هذه الأجهزة استخدامًا سيئًا ، فيذيعون عن طريقها برامج مخرّبة للأخلاق وينشرون الإعلانات عن البضائع والمنتجات الجديدة متضمّنةً للصور الخليعة العارية ، فما ترى إعلانًا إلا وفيه صور للمرأة مغرية .

       هذه الوسائل التي هدى الله الإنسان إلى اختراعها هي وسائل نافعة . كان ينبغي له أن يشكر الله عليها ويستخدمها في أعمال الخير والدعوة إلى المثل الأخلاقية ؛ لكنّه كفر بنعمه وأساء استخدامها: فاستخدمها في إشاعة الفواحش ، وتخريب الأخلاق، وترغيب المتابعين في الملاهي ، وإغرائهم بتقليد النماذج السيئة المقدّمة إليهم لهدم أخلاقهم ومجتمهم .

       فهل هناك سدٌّ يقوم في وجه هذه التحوّلات في المجتمع ؟ وهل من أمل في أن تقف هذه التحولات إلى حدٍّ ؟ وهل فكّر قادة الإنسانية في هذه التحولات المدهشة للمجتمع المعاصر ؟

*  *  *

مجلة الداعي الشهرية الصادرة عن دار العلوم ديوبند ، الهند . جمادي الثانية - رجب 1427هـ = يوليو - أغسطس 2006م ، العـدد : 6-7 ، السنـة : 30.